أسرار ستونهنج: دليل شامل لتاريخ وبناء وألغاز أعظم نصب حجري
أسرار ستونهنج. يقف هذا النصب الحجري العملاق شامخًا في سهول ساليسبري العشبية بإنجلترا. في الواقع، هو ليس مجرد مجموعة من الصخور القديمة. بل هو واحد من أكثر الألغاز الأثرية إثارة للدهشة والغموض في العالم. فمنذ آلاف السنين، حير هذا الموقع العلماء، المؤرخين، والزوار على حد سواء. وقد أثار أسئلة لا حصر لها: من هم البناة الذين تمكنوا من نقل هذه الأحجار الضخمة؟ كيف فعلوا ذلك بتقنيات العصر الحجري؟ والأهم من ذلك، لماذا بنوا هذا الصرح المذهل؟
لذلك، في هذا المقال الشامل والمفصل، سنأخذك في رحلة عبر الزمن. حيث سنغوص في أعماق تاريخ ستونهنج الغامض، ونستكشف مراحل بنائه المعقدة. بعد ذلك، سنحلل أهم النظريات العلمية التي تحاول فك شفرة الغرض الحقيقي منه، سواء كان مرصدًا فلكيًا، أو معبدًا مقدسًا، أو حتى مكانًا للشفاء. علاوة على ذلك، سنسلط الضوء على أحدث الاكتشافات التي غيرت فهمنا للموقع. وأخيرًا، سنرى كيف ألهم ستونهنج الثقافة الشعبية وأصبح رمزًا عالميًا للغموض والإرث القديم.
الفصل الأول: تاريخ ستونهنج – قصة بناء امتدت لـ 1500 عام
إن بناء ستونهنج لم يكن حدثًا واحدًا. بل كان مشروعًا هائلاً تطور على مدى قرون طويلة، مما يعكس تغير الثقافات والمعتقدات لدى شعوب ما قبل التاريخ. وقد قسم علماء الآثار تاريخه إلى ثلاث مراحل رئيسية.
المرحلة الأولى (حوالي 3000 قبل الميلاد): البدايات الترابية
لم يكن ستونهنج في بدايته يحتوي على أي حجارة. فقد بدأ كمعلم ترابي بسيط. حيث قام البناة الأوائل بحفر خندق دائري ضخم وساتر ترابي باستخدام أدوات بدائية مصنوعة من قرون الغزلان وعظام الماشية. وداخل هذا الساتر، حفروا 56 حفرة غامضة تُعرف اليوم باسم “ثقوب أوبري”، نسبة إلى جون أوبري الذي اكتشفها في القرن السابع عشر. ويعتقد أن هذه الحفر كانت تحتوي في الأصل على أعمدة خشبية أو ربما حجارة زرقاء صغيرة.
المرحلة الثانية (حوالي 2600-2400 قبل الميلاد): وصول الحجارة الزرقاء
هنا تبدأ واحدة من أعظم أسرار ستونهنج الهندسية. ففي هذه المرحلة، تم جلب حوالي 80 حجرًا ضخمًا من الصخور النارية، تُعرف بـ “الحجارة الزرقاء” (Bluestones) بسبب لونها المائل للزرقة عندما تكون رطبة. المدهش هو أن هذه الحجارة ليست محلية. فقد أظهرت التحاليل الجيولوجية أنها أتت من تلال بريسيلي في ويلز. وهذا يعني أن البناة القدماء نقلوها لمسافة تزيد عن 240 كيلومترًا! ولا يزال الجدل قائمًا حول كيفية نقل هذه الأحجار التي يزن كل منها حوالي 4 أطنان، سواء كان ذلك عبر البر أو باستخدام الممرات المائية.

المرحلة الثالثة (حوالي 2400-1500 قبل الميلاد): عصر حجارة السارسن العملاقة
في هذه المرحلة الأخيرة والنهائية، حصل ستونهنج على شكله الأيقوني الذي نعرفه اليوم. حيث تم جلب حجارة “السارسن” (Sarsen) العملاقة من الحجر الرملي. وهي أكبر بكثير من الحجارة الزرقاء، حيث يصل وزن بعضها إلى 50 طنًا. وقد تم نقلها من منطقة تبعد حوالي 32 كيلومترًا. بعد ذلك، قام البناة بتشكيلها ونحتها بدقة مذهلة باستخدام مطارق حجرية. ثم رفعوا هذه الحجارة العمودية الضخمة، ووضعوا فوقها عتبات حجرية أفقية (lintels)، مثبتين إياها باستخدام مفاصل “اللسان والأخدود” (tongue and groove)، وهي تقنية نجارة متقدمة جدًا بالنسبة للعصر الحجري. وهذه العملية الهندسية المعقدة هي ما يثير إعجاب الخبراء حتى يومنا هذا. وتشبه في تعقيدها استخدام أول قالب حجري في سك العملات، حيث تطلب الأمر دقة ومهارة فائقتين.
الفصل الثاني: الغرض من ستونهنج – مرصد فلكي، معبد ديني، أم مستشفى قديم؟
على الرغم من فهمنا لكيفية بناء ستونهنج، إلا أن “لماذا” لا يزال سؤالاً مفتوحًا. وهناك العديد من النظريات العلمية التي تحاول تفسير الغرض الحقيقي من هذا النصب.
النظرية الفلكية: تقويم سماوي عملاق
هذه هي واحدة من أكثر النظريات شيوعًا وقبولاً. فقد لاحظ العلماء أن ستونهنج مصمم بمحاذاة فلكية دقيقة. ففي يوم الانقلاب الصيفي (أطول يوم في السنة)، تشرق الشمس مباشرة فوق “حجر الكعب” (Heel Stone) وتضيء مركز النصب. وبالمثل، في يوم الانقلاب الشتوي (أقصر يوم في السنة)، تغرب الشمس في محاذاة دقيقة مع حجارة أخرى. لذلك، يعتقد الكثيرون أن الموقع كان بمثابة تقويم فلكي عملاق. وكان يستخدم لتتبع الفصول، وتحديد أوقات الزراعة والحصاد، وربما للتنبؤ بالظواهر الفلكية مثل الخسوف والكسوف.
النظرية الدينية: مكان مقدس للأسلاف
تدعم الاكتشافات الأثرية هذه النظرية بقوة. فقد تم العثور على مئات من بقايا الهياكل العظمية البشرية التي تم حرقها ودفنها في “ثقوب أوبري” وفي محيط الموقع. وهذا يشير إلى أن ستونهنج كان مقبرة ضخمة ومكانًا مقدسًا لتكريم الموتى والأسلاف. وقد يكون مرتبطًا بمعتقدات دينية حول الحياة بعد الموت. كما يعتقد البعض أن الدوائر الحجرية كانت تمثل عالم الأحياء، بينما كانت الهياكل الخشبية القريبة تمثل عالم الأموات.

النظرية الطبية: مركز للشفاء
هناك نظرية أخرى مثيرة للاهتمام. حيث تشير إلى أن ستونهنج كان مقصدًا للحجاج الباحثين عن الشفاء. ويستند هذا الاعتقاد إلى عدة أدلة. أولاً، يُعتقد أن “الحجارة الزرقاء” كانت لها قوى علاجية سحرية في معتقدات القدماء. ثانيًا، أظهر تحليل العديد من الهياكل العظمية المدفونة في الموقع أنها تعود لأشخاص كانوا يعانون من أمراض وإصابات خطيرة. وقد سافر هؤلاء الأشخاص من أماكن بعيدة، ربما على أمل الشفاء في هذا المكان المقدس.
الفصل الثالث: الاكتشافات الحديثة تغير القصة
في السنوات الأخيرة، أحدثت التكنولوجيا ثورة في فهمنا لستونهنج. فقد كشفت تقنيات المسح الجيوفيزيائي غير الغازية (مثل الرادار المخترق للأرض) عن عالم خفي تحت سهول ساليسبري.
كشف مشروع “المشهد الخفي لستونهنج” عن وجود أكثر من 17 نصبًا ومعلمًا أثريًا لم تكن معروفة من قبل. وهذا يشمل دوائر خشبية وحجرية أخرى، وخنادق، ومسارات قديمة. وهذا يعني أن ستونهنج لم يكن نصبًا معزولاً. بل كان جزءًا من مجمع طقوسي ضخم ومعقد يمتد على مساحة كيلومترات. وتؤكد مصادر موثوقة مثل هيئة التراث الإنجليزي أن هذه الاكتشافات لا تزال تغير فهمنا للموقع باستمرار.
الفصل الرابع: ستونهنج في الثقافة الشعبية
لقد تجاوز ستونهنج كونه مجرد موقع أثري. وأصبح رمزًا ثقافيًا عالميًا للغموض، السحر، والإرث القديم. وقد ظهر في عدد لا يحصى من الأعمال الأدبية، الأفلام، والمسلسلات التلفزيونية. كما يجذب الموقع سنويًا أكثر من مليون زائر من جميع أنحاء العالم. ويجتمع الآلاف هناك كل عام لمشاهدة شروق شمس الانقلاب الصيفي، في احتفال يربط الحاضر بالماضي السحيق.
الخاتمة: لغز يتجدد باستمرار
في الختام، يظل ستونهنج لغزًا يحير العلماء والمؤرخين حتى يومنا هذا. فعلى الرغم من أن الاكتشافات الحديثة تكشف بعضًا من أسراره، إلا أن الكثير من الحقائق لا تزال مخفية تحت طبقات الزمن. وسواء كان معبدًا دينيًا، أو مرصدًا فلكيًا، أو مكانًا للشفاء، أو ربما كل هذه الأشياء مجتمعة، فإن ستونهنج يظل شاهدًا صامتًا على عظمة وإبداع الحضارات القديمة. إنه يذكرنا بأن الماضي لا يزال لديه الكثير ليعلمنا إياه، وأن بعض الألغاز العلمية قد لا تُحل بالكامل أبدًا، وهذا ما يجعلها آسرة للغاية.





