كتاب القانون في الطب: أعظم موسوعة طبية في التاريخ الإسلامي
كتاب القانون في الطب. في تاريخ العلم، هناك أعمال قليلة استطاعت أن تشكل مسار حضارة بأكملها وتظل مرجعًا أساسيًا لقرون طويلة. في الواقع، يُعد كتاب “القانون في الطب” للعالم والفيلسوف المسلم ابن سينا واحدًا من هذه الأعمال الخالدة. فهو ليس مجرد كتاب طبي. بل هو موسوعة شاملة ومنهجية ضمت كل المعارف الطبية والصيدلانية المعروفة في عصره، من الحكمة اليونانية إلى الخبرات الفارسية والهندية، مع إضافات ابن سينا الإبداعية. ونتيجة لذلك، ظل هذا الكتاب المرجع الطبي الأول والأكثر موثوقية في جامعات أوروبا والعالم الإسلامي لأكثر من 600 عام، مما ساهم في تشكيل أسس الطب الحديث.
لذلك، في هذا المقال الشامل، سنفتح صفحات هذه الموسوعة العظيمة لنستكشف أسرارها. أولاً، سنتعرف على العقل العبقري الذي يقف وراءها، وهو ابن سينا “الشيخ الرئيس”. بعد ذلك، سنغوص في بنية الكتاب وأقسامه الخمسة، ونكتشف المنهج العلمي الدقيق الذي اتبعه. علاوة على ذلك، سنستعرض تأثيره الهائل على تاريخ الطب في الشرق والغرب. وفي النهاية، سنرى كيف أن مبادئ “القانون” لا تزال ذات صلة حتى في عصرنا الرقمي. استعد للتعرف على الكتاب الذي وُصف بأنه “الكتاب المقدس للطب”.
1. من هو ابن سينا؟ العقل الذي ألف القانون
قبل أن نتحدث عن الكتاب، يجب أن نتعرف على مؤلفه العبقري. فأبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا (المعروف في الغرب باسم Avicenna) لم يكن مجرد طبيب. بل كان فيلسوفًا، فلكيًا، رياضيًا، وشاعرًا. وقد وُلد حوالي عام 980م بالقرب من بخارى (في أوزبكستان حاليًا) خلال ذروة العصر الذهبي للإسلام. وقد أظهر نبوغًا استثنائيًا منذ صغره، حيث حفظ القرآن الكريم وهو في العاشرة من عمره، وأتقن الطب والفلسفة قبل أن يبلغ الثامنة عشرة. إن سعة معرفته ومنهجيته العقلية هما اللتان مكنتاه من تأليف عمل ضخم ومنظم مثل “القانون في الطب”.
2. ما هو كتاب القانون في الطب؟ بنية الموسوعة
ألف ابن سينا كتاب القانون في أوائل القرن الحادي عشر. وهو عمل ضخم يتكون من خمسة كتب (أو مجلدات) تضم أكثر من مليون كلمة. وقد كتبه باللغة العربية، لغة العلم في ذلك العصر. وكان الهدف منه هو تقديم ملخص شامل ومنظم لجميع المعارف الطبية المتاحة، مع ترتيبها بطريقة منطقية تسهل على الطلاب والأطباء دراستها وتطبيقها.
الكتاب الأول: المبادئ العامة والكليات
يعتبر هذا الكتاب بمثابة مقدمة نظرية شاملة لأساسيات الطب. حيث يناقش فيه ابن سينا تعريف الطب، عناصر الجسم البشري (الأركان)، الأمزجة، والأخلاط الأربعة (الدم، البلغم، الصفراء، السوداء)، وهي نظرية كانت سائدة آنذاك. كما أنه يتناول علم التشريح، وظائف الأعضاء، وأسباب الصحة والمرض. والأهم من ذلك، أنه يضع فيه قواعد التشخيص والعلاج، مؤكدًا على أهمية نمط الحياة الصحي والوقاية.
الكتاب الثاني: الأدوية المفردة (علم الصيدلة)
هذا الكتاب هو بمثابة موسوعة صيدلانية ضخمة. حيث يصف فيه ابن سينا حوالي 800 دواء “مفرد”، معظمها من أصل نباتي، بالإضافة إلى بعض المواد الحيوانية والمعدنية. ولكل دواء، يذكر اسمه، طبيعته (حار، بارد، رطب، جاف)، وخصائصه العلاجية. والأمر الثوري هنا هو أن ابن سينا وضع قواعد واضحة للتجربة الدوائية، مما يجعله من رواد علم الصيدلة السريري.

الكتاب الثالث: الأمراض الجزئية (من الرأس إلى القدم)
يعتبر هذا هو أكبر أجزاء “القانون”. وفيه، يناقش ابن سينا الأمراض التي تصيب أعضاء الجسم بشكل منهجي، بدءًا من أمراض الرأس والدماغ، ثم العينين، الأذنين، وهكذا نزولاً حتى أمراض القدمين. ولكل مرض، يقدم وصفًا تفصيليًا للأعراض، الأسباب، طرق التشخيص، والعلاجات المقترحة.
الكتاب الرابع: الأمراض العامة والحميات
ينتقل ابن سينا في هذا الكتاب للحديث عن الأمراض التي لا تختص بعضو معين، بل تؤثر على الجسم ككل. ويشمل ذلك مناقشة أنواع الحمى المختلفة، الأوبئة والأمراض المعدية، والجروح والكسور. كما يحتوي على قسم مهم عن “الزينة”، يتناول فيه صحة الشعر والجلد، مما يجعله من أوائل من ربطوا بين الطب والتجميل.
الكتاب الخامس: الأدوية المركبة (الأقراباذين)
أخيرًا، يختتم ابن سينا موسوعته بهذا الكتاب الذي يركز على الصيدلة العملية. حيث يقدم وصفات لتحضير مئات الأدوية المركبة، مثل الترياقات، المعاجين، والمراهم. وهو بمثابة دليل عملي للصيادلة والأطباء لتحضير علاجاتهم بأنفسهم.
وتقدم مؤسسات عالمية مثل المكتبة الوطنية الأمريكية للطب معلومات قيمة عن تأثير هذا الكتاب.
3. تأثير كتاب القانون في الطب: كيف شكل الطب الأوروبي؟
إن تأثير “القانون” لم يقتصر على العالم الإسلامي. بل كان تأثيره على أوروبا هائلاً وعميقًا. ففي القرن الثاني عشر، قام المترجم الإيطالي جيراردو الكريموني بترجمة الكتاب إلى اللاتينية. وسرعان ما انتشرت هذه الترجمة في جميع أنحاء أوروبا وأصبحت النص الطبي الأساسي في جامعاتها الناشئة، مثل جامعتي مونبلييه وبولونيا.
ولأكثر من 600 عام، كان طلاب الطب الأوروبيون يدرسون “القانون” كمرجع أساسي. حتى أن بعض الجامعات استمرت في استخدامه حتى القرن الثامن عشر. وقد ساهم الكتاب في نقل المعارف الطبية اليونانية والإسلامية المتقدمة إلى أوروبا، مما مهد الطريق لعصر النهضة والثورة العلمية. وهذا يوضح الدور المحوري الذي لعبه علماء مسلمون آخرون مثل صاحب كتاب الشفاء في تشكيل الفكر العالمي.
إرث لا يزال حيًا
في الختام، من الواضح أن كتاب القانون في الطب هو أكثر من مجرد مؤلف طبي قديم. إنه يمثل قمة الإنجاز الفكري في العصر الذهبي للإسلام، وشهادة على عبقرية ابن سينا الذي نجح في جمع وتنظيم وتطوير المعرفة الطبية بطريقة لم يسبق لها مثيل. وعلى الرغم من أن الطب الحديث قد تجاوز العديد من نظرياته، إلا أن المنهج العقلاني الذي أرساه، وتركيزه على الملاحظة، التجربة، والوقاية، لا يزال حجر الأساس الذي يقوم عليه الطب اليوم. ولذلك، يظل “القانون” إرثًا خالدًا يذكرنا بأن العلم لا يعرف حدودًا جغرافية أو زمنية.
اقرأ في مقالنا عن:
- جابر بن حيان: أبو الكيمياء وأعظم علماء العصر الإسلامي
- العلوم في العصر الذهبي للإسلام: إنجازات غيرت وجه العالم
- العلماء العرب في الطب: كيف ساهموا في تطور
- الفارابي: المعلم الثاني وقصة الفيلسوف الذي وحّد بين العقل والوحي
- ابن بطوطة: المغامر الأعظم في التاريخ الذي لم يُروَ قصته كاملة
- موسوعة بريتانيكا: قصة أقدم وأشهر موسوعة في العالم
- ابن سينا: حياته وإنجازاته وأثره في العلم والطب
- كتاب الشفاء لابن سينا: موسوعة الفلسفة والطب التي غيرت العالم
ابن سينا: عظيم الطب والفلسفة في التاريخ الإسلامي





