قبل أن تظهر الديناصورات الأولى بوقت طويل، وقبل أن تتشكل القارات التي نعرفها اليوم، كان كوكب الأرض يعج بالحياة. في الواقع، في نهاية العصر البرمي، منذ حوالي 252 مليون سنة، كانت اليابسة موطنًا لمخلوقات غريبة ورائعة، وكانت المحيطات تزخر بتنوع بيولوجي هائل. حيث كانت القارة العظمى “بانجيا” تجمع كل يابسة العالم، وتجولت فيها زواحف تشبه الثدييات مثل “الجورجونوبسيد” المفترس والديسينودونت العاشب. وفي البحار، كانت شعاب مرجانية قديمة تعج بالكائنات مثل ثلاثية الفصوص (التريلوبايت) التي عاشت لمئات الملايين من السنين. براكين سيبيريا والانقراض العظيم
جريمة “الموت العظيم”
لكن هذا العالم المزدهر كان على وشك أن يواجه كارثة لا يمكن تصورها. ففي غمضة عين جيولوجية، اختفى كل شيء تقريبًا. يُعرف هذا الحدث المروع باسم “الانقراض البرمي الثلاثي” أو، بلقبه الأكثر دراماتيكية، “الموت العظيم”. وتكشف السجلات الأحفورية عن حجم الفاجعة. حيث تشير التقديرات إلى أن حوالي 96% من جميع الأنواع البحرية و 70% من أنواع الفقاريات البرية قد انقرضت تمامًا. لقد كان هذا الحدث هو أقرب ما وصل إليه كوكبنا من حالة تعقيم شبه كامل للحياة المعقدة.
المشتبه به الرئيسي: براكين سيبيريا والانقراض العظيم
لعقود طويلة، بحث العلماء عن “المجرم” المسؤول عن هذه الكارثة. واليوم، تتجه كل الأدلة الجيولوجية والكيميائية نحو مشتبه به رئيسي واحد: سلسلة من الانفجارات البركانية الهائلة في سيبيريا الحديثة. هذا المقال سيكون بمثابة ملف تحقيق شامل. حيث سنستكشف العلاقة القوية بين براكين سيبيريا والانقراض العظيم. وسنكشف عن حجم هذه البراكين المروع، ونتتبع سلسلة “آليات القتل” المتتالية التي أطلقتها، وكيف مهدت هذه الكارثة الطريق لعصر الديناصورات.
تفاصيل الكارثة وآليات الموت
لفهم كيف يمكن لبركان أن يقضي على كوكب بأكمله تقريبًا، يجب أولاً أن ندرك حجمه غير العادي.
بركان بحجم قارة: ما هي فخاخ سيبيريا؟
لم تكن هذه مجرد انفجارات بركانية عادية. بل كانت حدثًا جيولوجيًا يُعرف باسم “مقاطعة الصخور النارية الكبيرة” (Large Igneous Province – LIP).
جيولوجيا “مقاطعات الصخور النارية الكبيرة”
تحدث هذه الظاهرة عندما ترتفع كميات هائلة من الصهارة (الماجما) من أعماق وشاح الأرض وتتدفق عبر القشرة الأرضية. وعلى عكس البراكين التقليدية التي تبني جبالًا مخروطية، فإن هذه الانفجارات تكون على شكل شقوق واسعة. ونتيجة لذلك، تتدفق الحمم البركانية (اللافا) لتغطي مساحات شاسعة من الأرض بطبقات سميكة من صخور البازلت، مكونة ما يشبه “الفخاخ” أو المصاطب، ومن هنا جاء اسم “فخاخ سيبيريا”.
حجم انفجارات براكين سيبيريا ومدة ثورانها
الأرقام المتعلقة بـ براكين سيبيريا والانقراض العظيم تكاد لا تصدق. حيث تشير التقديرات إلى أن هذه الانفجارات أطلقت ما بين 3 إلى 5 ملايين كيلومتر مكعب من الحمم البركانية. وهذا يكفي لتغطية مساحة بحجم قارة أوروبا بأكملها بطبقة من البازلت يبلغ سمكها كيلومترًا واحدًا. والأمر الأكثر رعبًا هو أن هذه الانفجارات لم تكن حدثًا واحدًا، بل استمرت بشكل متقطع لمئات الآلاف من السنين، وتزامنت ذروتها بدقة مع فترة “الموت العظيم”.
آليات الموت: كيف قتلت براكين سيبيريا العالم؟
من المهم أن نفهم أن الحمم البركانية نفسها لم تكن القاتل الرئيسي. فقد كان تأثيرها محصورًا في سيبيريا. لكن الكارثة الحقيقية كانت في الغازات التي تم إطلاقها عندما شقت هذه الحمم طريقها عبر قشرة الأرض الغنية بالكربون. حيث قامت الصهارة الحارقة “بطهي” رواسب هائلة من الفحم والنفط والغاز والميثان المتجمد، وأطلقت كميات فلكية من غازات الدفيئة في الغلاف الجوي. وهذا بدوره أطلق سلسلة من ردود الفعل الكارثية.

1. الاحتباس الحراري السريع: إطلاق ثاني أكسيد الكربون
كانت الآلية الأولى والأهم هي إطلاق كميات هائلة من ثاني أكسيد الكربون (CO2) والميثان. وقد أدى ذلك إلى ظاهرة احتباس حراري سريعة وعنيفة. حيث تشير التقديرات إلى أن متوسط درجات الحرارة العالمية ارتفع بما بين 5 إلى 10 درجات مئوية. وهذا التغير السريع لم يمنح الأنواع الحية وقتًا كافيًا للتكيف.
2. المطر الحمضي وتدمير الغطاء النباتي
بالإضافة إلى ثاني أكسيد الكربون، أطلقت البراكين كميات كبيرة من ثاني أكسيد الكبريت. وعندما اختلط هذا الغاز ببخار الماء في الغلاف الجوي، شكل أمطارًا حمضية قوية. ونتيجة لذلك، دمرت هذه الأمطار الغابات والنباتات على نطاق واسع، مما أدى إلى تآكل التربة وانهيار السلسلة الغذائية على اليابسة. يمكنك معرفة المزيد عن آثار هذه الظواهر من خلال مصادر مثل هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية (USGS).
3. اختناق المحيطات: نقص الأكسجين (Anoxia)
كانت المحيطات هي مسرح الموت الأكبر. فقد أدى ارتفاع حرارة الغلاف الجوي إلى تسخين سطح المحيطات. ومن المعروف أن المياه الدافئة تحتفظ بكمية أقل من الأكسجين المذاب. بالإضافة إلى ذلك، أدى انهيار الحياة النباتية على اليابسة إلى زيادة تدفق المواد العضوية والمغذيات إلى المحيطات، مما تسبب في ازدهار هائل للبكتيريا التي استهلكت ما تبقى من الأكسجين. ونتيجة لذلك، تحولت مساحات شاسعة من المحيطات إلى مناطق “ميتة” خالية من الأكسجين، مما أدى إلى اختناق 96% من الحياة البحرية.
4. تحمض المحيطات: انهيار السلسلة الغذائية البحرية
كما لو أن نقص الأكسجين لم يكن كافيًا، فقد امتصت المحيطات كميات هائلة من ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي. وهذا أدى إلى زيادة حموضة المياه بشكل كبير. وقد تسبب هذا التحمض في إذابة هياكل وأصداف الكائنات البحرية التي تبنيها من كربونات الكالسيوم، مثل الشعاب المرجانية والرخويات، مما أدى إلى انهيار قاعدة السلسلة الغذائية البحرية بالكامل.
يمكنك قراءة المزيد في مقالنا عن [تجربة الكون 25: من المدينة الفاضلة إلى الكارثة – القصة الحقيقية لأكثر التجارب غرابةً
]

عالم ينهض من الرماد
لم يكن الانقراض العظيم مجرد نهاية عالم قديم، بل كان أيضًا بداية مؤلمة لعالم جديد.
عالم جديد ينهض من الرماد
بعد انتهاء ثوران براكين سيبيريا، استغرق الأمر ملايين السنين لتتعافى الحياة على الأرض. حيث تركت الكارثة كوكبًا شبه فارغ، مليئًا بالفراغات البيئية التي كانت تشغلها الأنواع المنقرضة.
تمهيد الطريق للديناصورات
كانت الزواحف الشبيهة بالثدييات (السينابسيدات) هي التي هيمنت على اليابسة قبل الانقراض. لكن القلة التي نجت منها لم تستطع منافسة مجموعة أخرى من الزواحف التي أثبتت أنها أكثر قدرة على التكيف في العالم الجديد الحار والجاف: الأركوصورات. ومن هذه المجموعة تطورت الديناصورات في العصر الترياسي التالي. وبالتالي، يمكن القول إن الانقراض العظيم هو الذي أتاح الفرصة للديناصورات لتظهر وتهيمن على الكوكب لمدة 150 مليون سنة تالية.
الخلاصة: دروس من الانقراض العظيم
في الختام، تقدم لنا قصة براكين سيبيريا والانقراض العظيم درسين مهمين. أولهما، هو الترابط العميق بين أنظمة كوكبنا. حيث أظهرت كيف يمكن لحدث جيولوجي في جزء واحد من العالم أن يطلق سلسلة من ردود الفعل التي تؤثر على الغلاف الجوي والمحيطات والحياة في كل مكان. وثانيهما، هو تذكير قوي بمدى هشاشة الحياة في مواجهة التغيرات المناخية السريعة والواسعة النطاق، خاصة تلك التي تكون مدفوعة بإطلاق كميات هائلة من غازات الدفيئة. مما لا شك فيه أن فهم هذه الكوارث القديمة يمنحنا منظورًا أعمق وأكثر حكمة للتحديات البيئية التي نواجهها اليوم.