نساء الكرنتينا رواية لا تُشبه شيئًا مما قُرئ في الأدب المصري خلال العقدين الأخيرين. حين كتبها نائل الطوخي، بدا وكأنه قرر أن يهدم قواعد الكتابة أولًا، ليبني سردًا جديدًا على أنقاض المفاهيم التقليدية. رواية مليئة بالفانتازيا السوداء، والعنف، والجرأة اللغوية، لكنها لا تفتقر إلى العمق، بل تتعمق حيث لا يجرؤ الآخرون.
نُشرت الرواية عام 2013، وأثارت جدلًا واسعًا منذ صدورها، إذ أنها لا تكتفي بكسر التابوهات الاجتماعية، بل تمزج الواقع بالعبث، والهمجية بالمنطق، والأنثى بالمقاتلة. في قلب هذه الرواية تقع مدينة “الكرنتينا”، لكنها ليست مدينة عادية، بل مساحة متخيّلة تمثل وجدانًا موازيًا لمدينة الإسكندرية، بكل عشوائيتها، وفقرها، وعنفها، وأحلامها المشوّهة.
من هي “نساء الكرنتينا”؟
العنوان يوحي بأن الرواية نسائية الطابع، لكن الحقيقة أعمق. بطلتها الرئيسية “هانية” ليست نموذجًا للمرأة المضطهدة، بل للمرأة الخارقة التي تصنع العنف بنفسها، وتحكم عالمًا مقلوبًا. هي قاتلة، زعيمة، أم، وتلميذة فلسفة. تعيش في واقع تتحكّم فيه بالقوة، لكنها في داخلها تحمل هشاشة وجودية رهيبة.
بجانب هانية، تظهر شخصيات نسائية أخرى، وكلٌّ منها تمثّل وجهًا مختلفًا للتمرد الأنثوي: من المتصوفة المجنونة، إلى المجرمة الرومانسية، إلى الأم الباكية. الرواية لا تحتفي بالمرأة بقدر ما تُفرّغها من “القداسة”، وتعيد رسمها بلحمٍ ودم، وخوف، ودموع، ودماء.
الكرنتينا: مدينة الفوضى أو المدينة الحقيقية؟
مدينة الكرنتينا في الرواية هي كائن حي، تُعبر عن مدينة بلا قواعد. كل شيء فيها مسموح، وكل شيء مباح. يتعايش فيها اللصوص مع الفلاسفة، والمومسات مع القادة. تبدو كأنها فانتازيا رمزية، لكن مَن يعرف الأحياء الشعبية في مصر سيدرك أن هذه المدينة ليست خيالية تمامًا.
في نساء الكرنتينا، المدينة ليست خلفية، بل شريك في التكوين. الجغرافيا هنا ليست حيادية، بل فاعلة في تشكيل الشخصيات، وإعادة خلق قيم جديدة، منحرفة لكنها واضحة، مجنونة لكنها صادقة.
اللغة والأسلوب: صدمة ثم انغماس
تكتب الرواية بلغة جريئة جدًا، قد تصدم القارئ في البداية. لا تزيّن الكلمات، ولا تخجل من استخدام العامية والشتائم. لكن بعد الفصول الأولى، يبدأ القارئ في فهم لماذا هذا الأسلوب: لأنه يُناسب عالمًا فوضويًا، لا يمكن التعبير عنه بلغة كلاسيكية.
الكاتب يستخدم أسلوب “اللاشفقة”، فلا يبرر أفعال شخصياته، ولا يطلب التعاطف معها. بل يُقدّمها كما هي: عارية من الأخلاق المثالية، مليئة بالتناقضات. هذا الأسلوب يجعل الرواية أقرب إلى “مرآة مكسورة”، لكنها تعكس واقعًا أكثر دقة من المرآة النظيفة.
الأنثى ككيان فاعل لا مفعول به
في معظم الأدب العربي، تكون المرأة ضحية أو هامشًا. في نساء الكرنتينا، تنقلب المعادلة. المرأة هي المجرم، والقائد، والمفكر، والمخرّب، وحتى القاتل المتسلسل. لكنها أيضًا الأم، والحبيبة، والحائرة في معنى الحياة. هذا التضاد يُبرز التعقيد الحقيقي للأنثى، ويُسقط القوالب الاجتماعية الجامدة.
هانية، بطلة الرواية، تُجسّد هذا التناقض بأقصى درجاته. هي قاتلة لا ترمش، لكنها تبكي عند فقد طفل. هي تقود رجالًا مسلحين، لكنها تسأل: لماذا نعيش؟ هل سنُغفر يومًا؟ هذا التداخل بين القوة والهشاشة هو ما يجعل شخصيتها فريدة في الأدب العربي الحديث.
الرمز السياسي والاجتماعي في الرواية
لا تخلو الرواية من إسقاطات سياسية واضحة، لكنها غير مباشرة. نقرأ عن دولة غائبة، عن فوضى أمنية، عن عدالة مشوّهة تُطبّق بالسلاح. “الكرنتينا” تشبه مصر التي سقطت فيها السلطة، وبدأت الشوارع تحكم نفسها. وكأن الرواية تقول: حين يغيب القانون، يظهر قانون الغاب. لكنها لا تبرّر ذلك، بل تُعرّيه.
رواية نساء الكرنتينا ليست للجميع، لكنها لمن يجرؤ على مواجهة النصوص القاسية. من يتخطّى صدمة البداية، سيكتشف عمقًا سرديًا نادرًا، وبناءً فنيًا قويًا، وشخصيات تظل عالقة في الذاكرة. في القسم التالي من هذا المقال، سنحلل البناء السردي، الدلالات الرمزية، ودور المدينة في خلق هذا العالم الجنوني.
نساء الكرنتينا – تحليل البناء السردي والرموز في رواية خارج المألوف
رواية نساء الكرنتينا لا تُشبه أيّ عمل أدبي تقليدي. هي عمل روائي يهدم القواعد ثم يعيد بناءها، لا لتجذب القارئ العادي، بل لتختبر قدرته على التحمّل والمساءلة. في هذا القسم، نغوص في تفاصيل البنية السردية، ونحلّل الرموز، ونفكك أدوات الكتابة التي استخدمها نائل الطوخي في رسم هذا العالم الغريب.
بنية غير خطية: من الفوضى تنبثق الحكاية
لا تتبع الرواية تسلسلًا زمنيًا تقليديًا. بل تعتمد على تقنية “الدفعات السردية” التي تُلقي الأحداث دون تمهيد، وتعود إلى الخلف ثم تقفز للأمام. هذا الأسلوب قد يبدو مشتتًا في البداية، لكنه يتماشى تمامًا مع عالم الكرنتينا المليء بالاضطراب.
فصول الرواية قصيرة نسبيًا، وغالبًا ما تنتهي بجملة صادمة أو مشهد فجّ، مما يُبقي القارئ في حالة من الترقب وعدم الراحة. وهناك أيضًا استعمال متكرر للجمل الاعتراضية والمونولوجات الداخلية، وهي أدوات تزيد من حسّ “اللايقين” في النص، وتجعل من القراءة تجربة وجودية بحد ذاتها.
اللغة: بين العامية والواقعية الفجّة
اللغة هنا ليست فقط وسيلة لنقل الحدث، بل أداة لهدم الأوهام. يستخدم الطوخي خليطًا بين الفصحى والعامية، دون تنميق، ودون رقابة، ليُعطي لكل شخصية صوتها الخاص. الشتائم، الألفاظ النابية، التعبيرات الساخرة، كلها جزء من بنية الرواية، وليست زخرفة لغوية.
ورغم أن هذا قد يُنفّر بعض القرّاء، إلا أن هذه اللغة تخدم بصدق طبيعة الشخصيات ومحيطها، وتعكس ثقافة المهمّشين الذين لا يتكلّمون بلغة الأدب، بل بلغة الشارع. وهنا تكمن عبقرية السرد، حين يُكتب بالعنف دون أن يفقد الفن.
الرمزية والعبثية: حين يصبح الواقع أكثر غرابة من الخيال
كل تفصيلة في الرواية يمكن قراءتها على مستويين: المستوى الحرفي، والمستوى الرمزي. مثلًا، مدينة الكرنتينا ليست مجرد حي، بل هي استعارة لوطن غائب القانون. وهانية ليست مجرد قاتلة، بل رمز للتحوّل من الضعف إلى الهيمنة.
هناك مشاهد تبدو عبثية أو مستحيلة منطقيًا، لكن عبثها يكشف عن واقع حقيقي: اغتيالات، حوارات مع الموتى، اختفاء مفاجئ لشخصيات، أو حتى لحظات “جنون” جماعي. الرواية توظّف العبث كأداة لكشف فشل المنطق في تفسير ما يحدث في بعض البيئات العربية الهامشية.
تقنية الشخصيات المتعددة
على الرغم من أن “هانية” هي البطلة المحورية، فإن الرواية تضم عددًا كبيرًا من الشخصيات الثانوية. كل شخصية تُقدَّم عبر مشهد أو موقف أو حوار موجز، لكنها تظل حاضرة. البائع، العسكري، العجوز، التلميذة، الشيخ، جميعهم عناصر في شبكة مدينة الكرنتينا.
هذه التقنية تجعل من الرواية خريطة اجتماعية أكثر منها قصة فردية. وكأن الطوخي يكتب عن “جماعة” تعيش وسط الخراب، لا عن شخص واحد فقط. لكن اللافت هو أن هذه الجماعة تُقاد من قبل النساء، لا الرجال، في قلب غير متوقّع للأدوار الاجتماعية.
الثنائية بين الجسد والسلطةنساء الكرنتينا
من المواضيع المحورية في الرواية، العلاقة بين الجسد والسيطرة. الجسد في نساء الكرنتينا ليس مقدّسًا، بل أداة للسلطة، أو أحيانًا مساحة للعقاب. تظهر هذه الثنائية في طريقة تعبير الشخصيات عن الغضب أو الحزن أو النشوة، وتنعكس على مشاهد العنف الجسدي والنفسي.
كما تُوظف الأنثى جسدها كوسيلة مقاومة، لا كموضوع خاضع. وهذا يعكس التمرّد على مفاهيم الأدب الذكوري، ويطرح سؤالًا مزعجًا: هل الجسد، في غياب القانون، هو وسيلة النجاة الوحيدة؟
نساء الكرنتينا – الفكاهة السوداء كسلاح مضاد للكارثة
وسط كل هذا العنف والتشوّه، لا تخلو الرواية من سخرية لاذعة. هناك لحظات تجعلك تضحك، لا لأن الموقف مضحك، بل لأن الحقيقة مرعبة. الفكاهة السوداء هنا ليست ترفًا، بل أداة مقاومة. تجعل القارئ يصمد أمام مشاهد الفوضى، وتمنحه لحظة تهكم تنقذه من الغرق.
الوعي النقدي المضمّن في النص
نائل الطوخي يُمرّر عبر الرواية وعيًا نقديًا بالأدب ذاته. كأن يقول للقارئ: “أعلم أنك ترفض ما تقرأ، لكن الواقع أكثر قبحًا.” لذلك، الرواية تزعج من جهة، لكنها تُحفّز من جهة أخرى على التفكير خارج الخطوط المستقيمة.
رواية نساء الكرنتينا تُكتب كما يُطلق الرصاص: بسرعة، وصدمة، وتأثير مباشر. وهي بهذا، لا تُشبه أدب البُرج العاجي، بل تنتمي إلى الأدب الميداني، العنيف، المعجون بالدم والتراب. في القسم الثالث والأخير، سنستعرض كيف استقبل النقاد هذا العمل، وما قاله القرّاء عنه، وأجمل ما يمكن اقتباسه من هذه المدينة المجنونة المسماة بالكرنتينا.
نساء الكرنتينا – الرواية التي حرّضت على كسر القواعد
حين صدرت نساء الكرنتينا لأول مرة، لم تمر مرور الكرام في الأوساط الأدبية. البعض وصفها بأنها رواية خارجة عن الذوق، والبعض الآخر اعتبرها إنجازًا سرديًا غير مسبوق. وفي الحالتين، لم تترك الرواية أحدًا محايدًا.
تفاعل القرّاء: بين النفور والانبهار
من يقرأ تعليقات القرّاء على مواقع مثل Goodreads وYouTube يدرك مدى الانقسام الحاد في استقبال الرواية. فبين من يصفها بـ”رائعة بلا حدود”، وآخر يراها “نصًا صادمًا بلا هدف”، نجد أن الرواية نجحت في إثارة النقاش، وهو ما فشلت فيه كثير من الأعمال المكرّسة.
عدد كبير من القرّاء أبدى إعجابه بشخصية “هانية”، واعتبروها إحدى أكثر الشخصيات النسائية جرأة وتعقيدًا في الأدب العربي. بينما رأى آخرون أن الرواية تفتقر إلى الأخلاق الأدبية، وهو ما يُثبت أن النص لم يُكتب ليرضي الجميع، بل ليستفزهم.
ماذا قال النقاد عن نساء الكرنتينا؟
- صلاح فضل: “نائل الطوخي كاتب يتقن هدم السرد وبنائه من جديد… نساء الكرنتينا عمل جدلي بامتياز.”
- مها عبد الفتاح – مجلة الثقافة الجديدة: “الرواية تجرّ القارئ إلى مساحة غير مريحة… لكنها حقيقية تمامًا.”
- صحيفة الشروق: “نساء الكرنتينا رواية عن المدينة البديلة، المرأة الحاكمة، والعنف بوصفه نظامًا.”
كما طُرحت الرواية في عدد من الندوات داخل مصر وخارجها، وتُرجم جزء منها إلى الإنجليزية، واعتبرها بعض النقاد من أبرز تجارب ما بعد الثورة في إعادة تشكيل الوعي الاجتماعي عبر الأدب.
أبرز الاقتباسات من الرواية
“أنا لا أحكم المدينة، أنا فقط أمنعها من السقوط.” – هانية
“في الكرنتينا، كل شيء مباح. حتى الخوف.”
“كنا نحيا كما لو أن القانون أسطورة، والرصاصة نص.”
لماذا تبقى نساء الكرنتينا في الذاكرة؟
لأنها لا تقدم إجابات، بل تفتح الجراح. لأنها لا تروي قصة حب أو نجاح، بل قصة فوضى لا مخرج منها إلا بالمواجهة. لأنها تسأل القارئ: ماذا لو كنت أنت هناك؟ ماذا لو كنت من سكان الكرنتينا؟
نساء الكرنتينا هي أكثر من رواية، إنها صرخة، أو ربما همس قاسٍ في أذن مجتمع لا يحب أن يسمع عن ألمه الحقيقي. ولهذا، فإنها تظل حاضرة في ذاكرة من يجرؤ على الدخول إلى هذا العالم، حتى بعد أن تُغلق الصفحة الأخيرة.
نهاية الرحلة… نحو مدينة أخرى
نختتم بهذا منشورنا الخامس من سلسلة الروايات العربية، ونترك مدينة الكرنتينا بما فيها من خراب وجمال. في منشورنا القادم، سننتقل إلى رواية خرائط التيه للكاتبة الكويتية بثينة العيسى، حيث تختفي الحدود بين الأمومة، والهوية، والحج، والفقد.
مقال: نقطة النور – بهاء طاهر يضيء عتمة الروح بالكلمة