من سراييفو إلى برلين: قصة بداية الحرب العالمية الأولى
اندلعت الحرب العالمية الأولى في صيف عام 1914، لكنها لم تكن وليدة لحظةٍ واحدة أو نتيجةَ حادثٍ منفرد. بل جاءت بعد عقودٍ طويلة من التوترات السياسية والعسكرية بين القوى العظمى في أوروبا. كانت القارة تعيش سباقًا محمومًا نحو التسلّح، وتنافسًا شرسًا على المستعمرات. كذلك كان هناك صراعًا خفيًا بين الإمبراطوريات القديمة التي سعت للحفاظ على نفوذها. والدول الصاعدة التي أرادت أن تجد لنفسها مكانًا على خريطة النفوذ العالمي. كان العالم أشبه ببرميل بارود ينتظر شرارة صغيرة ليشتعل، وقد جاءت تلك الشرارة من قلب البلقان.
في 28 يونيو 1914، قام شاب قومي صربي يُدعى جافريلو برينسيب باغتيال الأرشيدوق فرانز فرديناند، ولي عهد الإمبراطورية النمساوية المجرية، وزوجته صوفي أثناء زيارتهما الرسمية لمدينة سراييفو، عاصمة البوسنة والهرسك. كان برينسيب عضوًا في منظمة سرية تُعرف باسم “اليد السوداء”. هذه المنظمة تسعى إلى توحيد الشعوب السلافية تحت راية صربيا. هذه الحادثة لم تكن مجرد عمل إرهابي معزول كما بدا في البداية. بل كانت نتيجةً مباشرة لتصاعد النزعة القومية في منطقة البلقان التي كانت آنذاك بؤرة توتر دائم بين الإمبراطوريات.
اغتيال الأرشيدوق
اغتيال الأرشيدوق كان بمثابة الصاعق الذي فجّر الأوضاع المتوترة منذ زمن. إذ رأت الإمبراطورية النمساوية في الحادث فرصةً لتأديب صربيا وإضعافها. وبعد أقل من شهر، أرسلت فيينا إنذارًا شديد اللهجة إلى بلغراد. كان يتضمن شروطًا قاسية تمسّ سيادة الدولة الصربية. ومع أن صربيا قبلت بمعظم المطالب لتجنب الحرب، فإن النمسا رفضت الرد وأعلنت الحرب في 28 يوليو 1914. وبهذا بدأت سلسلة من التفاعلات الدولية التي تحولت خلال أيام قليلة إلى نزاع عالمي.
لم تكن أوروبا حينها تدرك أن هذا الاغتيال الصغير سيغير مجرى التاريخ. بفضل شبكة التحالفات المعقدة التي ربطت الدول الأوروبية، تحولت الأزمة المحلية إلى حرب شاملة. وقفت روسيا إلى جانب صربيا بدافع القومية السلافية. لذلك بادرت ألمانيا إلى دعم حليفتها النمسا بإعلان الحرب على روسيا، ثم على فرنسا. بعد ذلك انضمت بريطانيا لاحقًا للدفاع عن بلجيكا بعد غزوها من قبل القوات الألمانية. خلال أسابيع فقط، كانت النيران قد امتدت من سراييفو إلى برلين وباريس ولندن وسانت بطرسبورغ. وكانت هذه بداية الحرب العالمية الأولى التي ستستمر أكثر من أربع سنوات وتغيّر وجه العالم بأسره.
لقد كانت حادثة سراييفو الشرارة التي فجّرت تراكمات عقودٍ من الغضب والريبة والمصالح المتضاربة. جعلت من أوروبا ساحةً لصراعٍ دمويّ غير مسبوق. ففي لحظة واحدة، تحوّلت المشاعر القومية المتأججة والسياسات الاستعمارية الجشعة إلى جبهاتٍ ملتهبة. وأصبح العالم بأسره يدفع ثمن رصاصةٍ أُطلقت في شارعٍ ضيق من شوارع سراييفو.
من سراييفو بدأت القصة
في صباح يوم الأحد الموافق 28 يونيو 1914، كانت شوارع سراييفو تزدحم بالجنود والمواطنين لاستقبال الأرشيدوق فرانز فرديناند، وريث عرش الإمبراطورية النمساوية المجرية، وزوجته صوفي. كانت زيارته تهدف إلى تعزيز حضور الإمبراطورية في البوسنة والهرسك التي ضمتها في عام 1908. وهذا ما أثار غضب القوميين الصرب الذين رأوا في هذا الوجود تهديدًا لطموحاتهم القومية. وبينما كانت السيارات الملكية تمر عبر الجسر الضيق في المدينة، خرج الشاب جافريلو برينسيب، وهو عضو في منظمة سرية تُعرف باسم “اليد السوداء”، وأطلق رصاصتين قاتلتين أصابتا الأرشيدوق وزوجته مباشرة.
انتشر الخبر كالنار في الهشيم، ولم يكن مجرد حادث اغتيال سياسي. بل كان إعلانًا ضمنيًا لانفجار صراع طويل الأمد بين الإمبراطوريات الأوروبية. فيينا صُدمت واشتعل الغضب في القصر الإمبراطوري، فألقت النمسا-المجر باللوم على صربيا التي دعمت الحركات القومية في البلقان. لم تمضِ أسابيع حتى بدأت التهديدات، وأُرسلت الإنذارات، وأصبح الاغتيال الشرارة التي فجّرت النظام السياسي الهش الذي حكم أوروبا لعقود.
التصعيد الدبلوماسي والتحالفات المتشابكة
كانت أوروبا آنذاك ساحةً مليئة بالتوترات والشكوك المتبادلة. فالقوى العظمى لم تكن مجرد دول، بل كانت إمبراطوريات مترامية الأطراف. كانت تتنافس على المستعمرات والنفوذ في آسيا وإفريقيا. ومن هذا الصراع نشأت تحالفات دفاعية تحولت لاحقًا إلى قيودٍ أجبرت الدول على دخول الحرب رغمًا عنها. من جهة، كان هناك “الوفاق الثلاثي” الذي ضم فرنسا، وبريطانيا، وروسيا. ومن الجهة الأخرى “التحالف الثلاثي” الذي جمع ألمانيا، والنمسا-المجر، وإيطاليا. هذه التحالفات جعلت أي نزاع محلي في أوروبا كفيلاً بإشعال حرب كبرى.
عندما أعلنت النمسا الحرب على صربيا في 28 يوليو 1914 بعد رفض بعض بنود الإنذار النهائي، شعرت روسيا بأن عليها حماية حليفتها الصغرى، فأعلنت التعبئة العامة. عندها ردت ألمانيا بإعلان الحرب على روسيا في الأول من أغسطس، ثم على فرنسا بعد يومين، وأخيرًا غزت بلجيكا لتطبيق خطتها العسكرية. تدخلت بريطانيا بدورها بعد انتهاك حياد بلجيكا، فتحولت الأزمة من نزاع محلي في البلقان إلى حرب شاملة بين كبرى القوى العالمية. في غضون أسبوع واحد فقط، كانت أوروبا كلها في حالة حرب.
برلين تشعل أوروبا بالحرب
في برلين، كان القادة الألمان يعتقدون أن الوقت قد حان لتحقيق هيمنتهم العسكرية والاقتصادية على القارة. تبنوا خطة شليفن التي وضعت قبل سنوات. هذه كانت خطة طموحة تهدف إلى القضاء على فرنسا بسرعة عبر غزوها من بلجيكا. ثم التفرغ لمواجهة روسيا البطيئة في التعبئة. كانت الفكرة بسيطة: نصر سريع في الغرب قبل أن تتاح للشرق فرصة الرد. لكن الحسابات أخطأت التقدير.
فبمجرد أن دخلت القوات الألمانية الأراضي البلجيكية، أعلنت بريطانيا الحرب على ألمانيا. واعتبرت ذلك خرقًا صارخًا للحياد الدولي. وبذلك اشتعلت الجبهات من بحر الشمال حتى جبال الألب. تحولت برلين إلى مركز القيادة للعمليات العسكرية الكبرى، بينما كانت باريس تستعد للهجوم، ولندن ترسل قواتها إلى الجبهة. وخلال أشهر قليلة فقط، غرقت أوروبا في أتون حرب لم يشهد التاريخ مثلها من قبل. من حيث حجم الجيوش والأسلحة المستخدمة والضحايا المدنيين.
الأسباب العميقة وراء الحرب العالمية الأولى
على الرغم من أن حادثة سراييفو كانت الشرارة المباشرة، فإن جذور الحرب أعمق بكثير. كانت أوروبا في تلك الحقبة تعاني من سباق تسلح محموم، حيث تنافست بريطانيا وألمانيا في بناء أقوى الأساطيل البحرية. كما تصاعدت النزعة القومية داخل الإمبراطوريات متعددة الأعراق، فبدأت الشعوب تطالب بالاستقلال والهوية القومية الخاصة بها. إلى جانب ذلك، أدى التنافس الإمبريالي على المستعمرات في إفريقيا وآسيا إلى توتر العلاقات بين القوى الكبرى.
كما أن النظام الدبلوماسي الأوروبي كان هشًا، يعتمد على التوازن أكثر من الثقة. فكل دولة كانت تخشى الأخرى، وكل معاهدة كانت بمثابة فخٍ محتمل. كانت أوروبا بالفعل برميل بارود ينتظر شرارة صغيرة لتفجيره، فجاء الاغتيال ليطلق انفجارًا هائلًا لم يكن بالإمكان السيطرة عليه.
النتائج المبكرة للحرب
في الأسابيع الأولى من الحرب، سادت الحماسة الوطنية. خرجت الجماهير في برلين وباريس ولندن تهتف بالنصر القريب. لكن الواقع سرعان ما خيّب الآمال. فشلت ألمانيا في تحقيق النصر السريع الذي وعدت به خطة شليفن، ووقف الجيش الفرنسي في معركة المارن الأولى في سبتمبر 1914. حيث كان حاجزًا التقدم الألماني نحو باريس. ومع توقف الحركة العسكرية، بدأ الجانبان في حفر الخنادق الممتدة مئات الكيلومترات. تمتد من بحر الشمال إلى الحدود السويسرية.
تحولت الحرب إلى صراع استنزاف. حيث كانت كل معركة تُكلف آلاف الأرواح دون تقدم يُذكر. ومع حلول الشتاء، بدأت المعاناة الإنسانية في الازدياد بسبب البرد والجوع والدمار. وفي الجبهة الشرقية، تكبد الروس خسائر فادحة أمام الجيش الألماني في معركة تاننبرغ. خلال أشهر قليلة فقط، كانت أوروبا كلها تعيش مأساة إنسانية وسياسية واقتصادية. لم يعرف لها التاريخ مثيلاً، واضعة الأسس لتحولات كبرى في القرن العشرين.
جدول يوضح تسلسل الأحداث من الاغتيال إلى اندلاع الحرب
| التاريخ | الحدث الرئيسي |
|---|---|
| 28 يونيو 1914 | اغتيال الأرشيدوق فرانز فرديناند في سراييفو |
| 23 يوليو 1914 | النمسا تقدم إنذارًا نهائيًا لصربيا |
| 28 يوليو 1914 | إعلان الحرب النمساوية على صربيا |
| 1 أغسطس 1914 | ألمانيا تعلن الحرب على روسيا |
| 3 أغسطس 1914 | ألمانيا تعلن الحرب على فرنسا |
| 4 أغسطس 1914 | بريطانيا تدخل الحرب بعد غزو بلجيكا |
ما الذي جعل اغتيال الأرشيدوق سبباً في حرب عالمية؟
لأن التحالفات بين الدول كانت قوية ومترابطة، وأي صراع محلي كان يعني تدخل قوى أخرى تلقائيًا. اغتيال الأرشيدوق لم يكن سوى الشرارة التي كشفت هشاشة السلام الأوروبي.
هل كانت الحرب العالمية الأولى حتمية؟
يرى المؤرخون أن الحرب كانت شبه حتمية بسبب التوترات السياسية والاقتصادية والعسكرية المتراكمة، لكن الدبلوماسية الضعيفة فشلت في منعها.
كيف أثرت الحرب على الشعوب الأوروبية؟
خلفت الحرب ملايين القتلى، وتسببت في دمار هائل، وانهيار إمبراطوريات كبرى مثل النمساوية والمجرية والعثمانية، وولادة أنظمة جديدة.
ما الدرس الأبرز من الحرب العالمية الأولى؟
الدرس الأهم هو أن سباق التسلح والتحالفات غير المتوازنة يقود العالم إلى الدمار. كما أن الحوار هو السبيل الوحيد للحفاظ على السلام العالمي.
الخاتمة
من سراييفو إلى برلين، كانت الحرب العالمية الأولى أكثر من مجرد صراع مسلح. بل كانت نقطة تحول كبرى في تاريخ البشرية. هذه الحرب لم تغيّر حدود الدول فقط. بل غيرت أيضاً مفهوم القوة والسيادة. لقد علّمت العالم أن السلام لا يُشترى بالقوة. وكذلك أن شرارة صغيرة يمكن أن تحرق قارة بأكملها.
اقرأ في مقالنا عن:
- جابر بن حيان: أبو الكيمياء وأعظم علماء العصر الإسلامي
- الدولة الأموية في سوريا: بداية الحكم الإسلامي المركزي وأهم إنجازاته
- أقدم الحضارات في الأرض: من صنع الإنسان إلى مجد التاريخ
- الدولة الأموية في سوريا: بداية الحكم الإسلامي المركزي وأهم إنجازاته
- كيف انتهت الحرب العالمية الثانية: السقوط المدوي لألمانيا واليابان ونهاية عصر الدماء
ما هي أسباب قيام الحرب العالمية الأولى؟





