ابن عرس في نيوزيلندا: حيوان صغير كلف حكومة نيوزيلندا خسائر تفوق 500،000 دولار
قد يبدو عنوانًا لقصة غريبة أو فيلم كوميدي. كيف يمكن لحيوان صغير ورشيق مثل ابن عرس أن يتسبب في خسائر مالية فادحة لحكومة دولة بأكملها؟ هل قام هذا المخلوق الصغير بعملية سطو متطورة؟ أم أنه ألحق أضرارًا ببنية تحتية حيوية؟ الحقيقة أن هذه القصة لا تدور حول حادثة واحدة منفردة، بل هي فصل صغير في ملحمة بيئية كبرى، مأساة حقيقية جعلت من ابن عرس في نيوزيلندا واحدًا من أخطر الأعداء للطبيعة الفريدة في البلاد. الرقم المذكور، 500,000 دولار، ليس سوى نقطة في بحر التكاليف التي تتكبدها نيوزيلندا سنويًا لمكافحة هذا المفترس الصغير وعائلته المدمرة.
هذه قصة تحذيرية عن العواقب الوخيمة للتدخل البشري غير المدروس في الطبيعة. إنها حكاية كيف يمكن لقرار واحد، تم اتخاذه قبل أكثر من قرن بنية حسنة، أن يطلق العنان لكارثة بيئية تستمر أجيالاً، وتجبر أمة على خوض حرب طموحة ومكلفة بشكل لا يصدق لإنقاذ كنوزها الطبيعية. بالتالي، فإن قصة ابن عرس ليست مجرد قصة عن حيوان، بل هي قصة عن الهشاشة البيئية، والغطرسة البشرية، والعزيمة المذهلة على تصحيح أخطاء الماضي.
خطأ قاتل: القصة التاريخية وراء وصول ابن عرس إلى نيوزيلندا
لم يكن ابن عرس يومًا جزءًا من النظام البيئي الأصلي لنيوزيلندا. لقد تم جلبه إلى هناك عمدًا في أواخر القرن التاسع عشر، في واحدة من أسوأ تجارب المكافحة البيولوجية في التاريخ.
فكرة بدت جيدة في حينها: السيطرة على الأرانب
في منتصف القرن التاسع عشر، قام المستوطنون الأوروبيون بإدخال الأرانب إلى نيوزيلندا من أجل الرياضة والطعام. لكن في بيئة خالية من المفترسات الطبيعية للأرانب، انفجرت أعدادها بشكل كارثي. أكلت الأرانب المليارات من النباتات ودمرت المراعي، مهددة صناعة الصوف الوليدة في البلاد. في محاولة يائسة للسيطرة على هذه الآفة، قررت الحكومة في ثمانينيات القرن التاسع عشر استيراد أعداء الأرانب الطبيعيين من أوروبا: القاقم (Stoat)، وهو قريب ابن عرس الأكبر والأكثر شراسة، بالإضافة إلى ابن عرس نفسه والنمس (Ferret).
العواقب غير المقصودة: تجاهل النظام البيئي الفريد
كان هذا القرار كارثيًا لأنه تجاهل حقيقة أساسية ومهمة حول طبيعة نيوزيلندا. قبل وصول البشر، كانت نيوزيلندا أرضًا للطيور. لقد تطورت حيواناتها المحلية لملايين السنين في غياب تام لأي ثدييات مفترسة برية. نتيجة لذلك، كانت العديد من أنواع الطيور فريدة من نوعها في العالم: الكثير منها لا يطير، ويبني أعشاشه على الأرض، ولم يكن لديها أي آليات دفاعية ضد مفترس سريع وماكر مثل القاقم أو ابن عرس في نيوزيلندا. لقد كانت نيوزيلندا جنة بريئة، وأطلق البشر فيها شياطين صغيرة لا ترحم.
الكارثة البيئية: التأثير المدمر لعائلة ابن عرس
بمجرد وصولها، لم تركز هذه المفترسات على الأرانب فقط، بل وجدت وليمة أسهل بكثير في الطيور المحلية التي لا حول لها ولا قوة. لقد بدأت واحدة من أسرع موجات الانقراض في التاريخ الحديث.
الضحايا الرئيسيون: الطيور النادرة التي لا تطير
لقد كانت الطيور الأرضية هي الأكثر تضررًا. لقد تحولت هذه الكنوز الوطنية إلى فريسة سهلة:
- طائر الكيوي (Kiwi): الرمز الوطني لنيوزيلندا، وهو طائر ليلي لا يطير. صغاره معرضة للخطر بشكل خاص، حيث تشير التقديرات إلى أن 90% من فراخ الكيوي تموت في البرية، ومعظمها بسبب القاقم.
- ببغاء الكاكابو (Kākāpō): ببغاء كبير، لا يطير، ومعروف بأنه أثقل ببغاء في العالم. تم دفعه إلى حافة الانقراض، ولم يتبق منه سوى بضع مئات تعيش في جزر محمية خالية من المفترسات.
- طائر التاكاهي (Takahē): طائر جميل ذو لون أزرق، كان يُعتقد أنه انقرض قبل إعادة اكتشافه، ولا يزال يكافح من أجل البقاء بسبب هذه المفترسات.
لم يقتصر الأمر على الطيور التي لا تطير، بل امتد ليشمل العديد من الطيور التي تعشش في الغابات والسحالي والحشرات المحلية.
مفترس لا يرحم: لماذا يعتبر القاقم (Stoat) فعالًا جدًا؟
على الرغم من أن ابن عرس والنمس يسببان أضرارًا، إلا أن القاقم يعتبر العدو العام رقم واحد. إنه صياد رشيق، وشجاع، ولا يرحم. يستطيع القاقم قتل حيوانات أكبر منه بكثير، وهو معروف بـ “هيجان القتل” (killing frenzy)، حيث يقتل كل ما يتحرك في عش أو منطقة معينة، حتى لو كان أكثر بكثير مما يستطيع أكله. هذه السمة تجعله مدمرًا بشكل خاص لمستعمرات الطيور.
الحرب على المفترسات: استجابة نيوزيلندا الطموحة والمكلفة
بعد إدراك حجم الكارثة، أعلنت نيوزيلندا حربًا شاملة على هذه الأنواع الغازية. إنها معركة طموحة ومكلفة، وتعتبر من أهم مشاريع الحفاظ على البيئة في العالم.
برنامج “خالية من المفترسات 2050” (Predator Free 2050)
في عام 2016، أطلقت الحكومة النيوزيلندية هدفًا جريئًا وغير مسبوق: جعل البلاد خالية تمامًا من أخطر ثلاثة مفترسات غازية (القاقم، الجرذان، والأبوسوم) بحلول عام 2050. هذا المشروع الضخم، الذي تقدر تكلفته بمليارات الدولارات، يجمع بين جهود الحكومة والمجتمعات المحلية والعلماء. يمكنك معرفة المزيد عن هذا المشروع الملهم من خلال الموقع الرسمي لإدارة الحفاظ على البيئة في نيوزيلندا.
تكلفة المعركة: الفخاخ، الطعوم، والتكنولوجيا
هنا نعود إلى التكلفة الباهظة. تتضمن المعركة شبكة واسعة من مئات الآلاف من الفخاخ التي يجب صيانتها بانتظام في تضاريس وعرة. كما تتضمن استخدام الطعوم السامة، وأشهرها مركب 1080، الذي يتم إسقاطه جوًا على مساحات واسعة، وهو إجراء فعال ولكنه مثير للجدل. بالإضافة إلى ذلك، يتم استثمار ملايين الدولارات في تطوير تكنولوجيا جديدة، مثل الفخاخ الذكية التي ترسل إشارة عند تفعيلها، وتقنيات الاستشعار الحراري، وحتى الأبحاث الجينية المتقدمة. إن تكلفة تطهير جزيرة واحدة متوسطة الحجم من هذه المفترسات يمكن أن تتجاوز بسهولة مبلغ 500,000 دولار، مما يوضح حجم الإنفاق الوطني الهائل.
تسبب انتشار ابن عرس في نيوزيلندا بضرر بيئي كبير نتيجة افتراسه الطيور المحلية، مما كلف الحكومة خسائر تفوق 500 ألف دولار بسبب برامج المكافحة والحماية البيئية. ويرتبط أضرار ابن عرس على البيئة بتسببه في اختلال التوازن الطبيعي بسبب عدم وجود مفترسات له داخل النظام البيئي في نيوزيلندا. كما أثّر ابن عرس والحياة البرية سلبًا على أنواع مهددة بالانقراض، الأمر الذي دفع السلطات إلى إطلاق خطط مكافحة ابن عرس في نيوزيلندا لحماية التنوع الحيوي والحد من تفاقم المشكلة.
درس مكلف عن الطبيعة والتصميم
في النهاية، قصة ابن عرس في نيوزيلندا هي أكثر من مجرد حكاية عن حيوان مفترس. إنها درس قوي ومكلف حول أهمية فهم واحترام النظم البيئية قبل التدخل فيها. إنها تظهر كيف يمكن لخطأ واحد أن يتردد صداه عبر الأجيال، مسببًا دمارًا لا يمكن إصلاحه بسهولة. ومع ذلك، فإنها أيضًا قصة ملهمة عن أمة بأكملها تتحد في تصميم مذهل لتصحيح خطأ تاريخي وإنقاذ تراثها الطبيعي الفريد، مهما كانت التكلفة. إنها حرب طويلة وشاقة، لكن نجاحها سيعني أن أصوات طيور الكيوي والكاكابو ستستمر في الصدى للأجيال القادمة، وهو هدف لا يقدر بثمن. وهذا يذكرنا بمسؤوليتنا تجاه الكوكب، سواء تعلق الأمر بحماية الطيور من الانقراض.
اقرأ في مقالنا عن:
- الجرذان الأفريقية الجرابية: أبطال صامتون ينقذون الأرواح من الألغام الأرضية
- خطر انقراض الطيور يتضاعف: 610 مليون طائر مفقود
- 10 من أغرب الحيوانات المهددة بالانقراض التي ربما لم تسمع بها
قتل بعض الحيوانات للمحافظة على البيئة في نيوزيلندا





