مقياس ريختر ما هو.. فمع كل زلزال يبرز اسمه مجددًا
مع كل هزة أرضية يشعر بها الناس في مكان ما من العالم، ومع كل خبر عاجل عن زلزال جديد، يبرز اسم أصبح مرادفًا لهذه الظاهرة الطبيعية المخيفة: مقياس ريختر. نسمع باستمرار عبارات مثل “زلزال بقوة 6 درجات على مقياس ريختر”، لكن ماذا يعني هذا الرقم حقًا؟ ما هو مقياس ريختر بالضبط؟ وكيف يمكن لمقياس واحد أن يعبر عن قوة حدث هائل ومدمر مثل الزلزال؟ على الرغم من شيوع استخدامه في وسائل الإعلام، يحيط بهذا المقياس الكثير من سوء الفهم.
في الواقع، كان تطوير مقياس ريختر في ثلاثينيات القرن الماضي ثورة حقيقية في علم الزلازل. فلأول مرة، أصبح لدى العلماء طريقة كمية وموضوعية لمقارنة حجم الهزات الأرضية المختلفة، بدلاً من الاعتماد فقط على الأوصاف الذاتية للدمار الذي تحدثه. لقد أعطانا لغة مشتركة للتحدث عن قوة الزلازل وفهمها بشكل أفضل. من ناحية أخرى، من المهم أن نعرف أن مقياس ريختر، رغم شهرته، لم يعد المقياس الأساسي الذي يستخدمه علماء الزلازل اليوم لوصف الزلازل الكبرى.
لماذا لا يزال اسم “ريختر” يتردد صداه؟
يكمن السبب في بساطة المفهوم نسبيًا وفي الأثر التاريخي العميق الذي تركه. لقد أصبح اسم “ريختر” جزءًا من الثقافة الشعبية، مرادفًا لقوة الزلزال. وسائل الإعلام لا تزال تستخدمه لأنه مألوف للجمهور ويسهل فهمه ظاهريًا. لكن لفهم حقيقة قوة الزلازل وما يقيسه العلماء اليوم، من الضروري أن نتعمق قليلاً في قصة هذا المقياس، ونفهم حدوده، ونتعرف على المقاييس الأكثر دقة التي حلت محله.
في هذا الدليل الشامل، سنأخذك في رحلة لكشف أسرار مقياس ريختر. سنعود إلى قصة تطويره على يد العالم تشارلز ريختر، ونشرح ببساطة كيف يعمل وماذا تعني درجاته اللوغاريتمية. ثم، سنستكشف حدوده ولماذا احتاج العلماء إلى مقاييس أخرى مثل مقياس العزم الزلزالي. سنوضح أيضًا الفرق الهام بين “القوة” (Magnitude) التي يقيسها ريختر و”الشدة” (Intensity) التي تصف تأثير الزلزال. إن فهم هذه المفاهيم ضروري لتقدير حجم هذه الظواهر الطبيعية الهائلة، التي تحكمها قوى أساسية مثل الجاذبية وحركة الصفائح التكتونية.
ماذا ستكتشف في هذا الدليل الزلزالي؟
سنبدأ بالقصة وراء اختراع المقياس. ثم نغوص في آلية عمله وطبيعته اللوغاريتمية. بعد ذلك، نناقش نقاط قوته وضعفه. وأخيرًا، نتعرف على المقاييس الحديثة ولماذا يظل اسم ريختر حاضرًا. استعد لقياس فهمك للزلازل!
قصة مقياس ريختر: الحاجة أم الاختراع
لفهم مقياس ريختر، يجب أن نعود إلى جنوب كاليفورنيا في أوائل ثلاثينيات القرن الماضي. كانت المنطقة تشهد نشاطًا زلزاليًا متكررًا، وكان العلماء بحاجة ماسة إلى طريقة موحدة لوصف ومقارنة حجم هذه الهزات.
تشارلز ريختر والحاجة لمقياس
في ذلك الوقت، كان المقياس الوحيد المتاح هو “مقياس ميركالي المعدل”، والذي يعتمد على وصف تأثيرات الزلزال على الناس والمباني والبنية التحتية (أي “الشدة”). لكن هذا المقياس كان ذاتيًا ويتأثر بعوامل مثل بُعد المنطقة عن مركز الزلزال ونوعية البناء. كان عالما الزلازل في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا (Caltech)، تشارلز ريختر وبينو غوتنبرغ، يبحثان عن طريقة لقياس “القوة” الجوهرية للزلزال نفسه عند مصدره، بغض النظر عن مكان الشعور به أو حجم الدمار.
كيف يعمل مقياس ريختر (ببساطة)؟
اعتمد ريختر وغوتنبرغ على جهاز قياس الزلازل (السيزموغراف)، الذي يسجل حركة الأرض أثناء الهزة على شكل خط متذبذب (سيزموغرام). لاحظا أن الزلازل الأكبر تنتج تذبذبات (موجات زلزالية) ذات “سعة” (Amplitude) أكبر على السيزموغرام.
الفكرة الأساسية لمقياس ريختر هي قياس أقصى سعة للموجات الزلزالية المسجلة بواسطة سيزموغراف معين (من نوع Wood-Anderson) على مسافة 100 كيلومتر من مركز الزلزال السطحي (Epicenter). وبما أنه من النادر أن يكون هناك جهاز قياس على هذه المسافة بالضبط، طور ريختر وغوتنبرغ معادلات رياضية لتعديل القياسات المأخوذة من مسافات مختلفة لتقدير القوة كما لو كانت على بعد 100 كم.
إذًا، مقياس ريختر هو مقياس لـ “قوة” أو “حجم” الزلزال بناءً على سعة أكبر موجة زلزالية مسجلة.
فهم المقياس اللوغاريتمي: قفزة هائلة مع كل درجة
وهنا تكمن النقطة الأهم والتي غالبًا ما يساء فهمها: مقياس ريختر هو مقياس لوغاريتمي للأساس 10. هذا يعني أن كل زيادة بمقدار درجة واحدة على المقياس تمثل زيادة بمقدار 10 أضعاف في سعة الموجة المسجلة.
- زلزال بقوة 6 درجات ينتج موجات أكبر بـ 10 مرات من زلزال بقوة 5 درجات.
- زلزال بقوة 7 درجات ينتج موجات أكبر بـ 100 مرة (10 × 10) من زلزال بقوة 5 درجات.
الأمر الأكثر إدهاشًا هو العلاقة بكمية الطاقة المنبعثة. كل زيادة بمقدار درجة واحدة على مقياس ريختر تعادل إطلاق طاقة أكبر بحوالي 31.6 مرة (تقريبًا 32 مرة). هذا يعني أن:
- زلزال بقوة 6 يطلق طاقة أكبر بحوالي 32 مرة من زلزال بقوة 5.
- زلزال بقوة 7 يطلق طاقة أكبر بحوالي 1000 مرة (32 × 32) من زلزال بقوة 5!
هذا يوضح لماذا تكون الزلازل الكبرى (7 وما فوق) مدمرة بشكل لا يقارن بالزلازل المتوسطة.
إنجازات وقيود مقياس ريختر
كان مقياس ريختر إنجازًا علميًا هائلاً في وقته، لكن مع تطور علم الزلازل، ظهرت حدوده.
لماذا كان ثوريًا؟
- أول مقياس كمي: قدم طريقة موضوعية وقائمة على القياس لمقارنة الزلازل.
- بسيط نسبيًا: سهل الفهم والتطبيق (في وقته).
- فعال للزلازل المحلية والمتوسطة: كان يعمل بشكل جيد جدًا للزلازل التي صُمم من أجلها في الأصل (زلازل جنوب كاليفورنيا المتوسطة القوة).
عيوب مقياس ريختر و”التشبع”
مع استخدامه على نطاق أوسع، ظهرت عيوب جوهرية:
- يعتمد على نوع معين من السيزموغراف: صُمم لجهاز Wood-Anderson، مما جعل تطبيقه عالميًا صعبًا في البداية.
- غير دقيق للزلازل البعيدة: يتأثر بمسار الموجات عبر طبقات الأرض المختلفة.
- مشكلة “التشبع” (Saturation): وهي القصور الأكبر. مقياس ريختر يفقد دقته عند قياس الزلازل الكبيرة جدًا (أعلى من حوالي 7 درجات). يبدأ المقياس في إعطاء قراءات متشابهة لزلازل تختلف قوتها الفعلية بشكل كبير. بمعنى آخر، “يتشبع” ولا يستطيع التمييز بين الأحجام الهائلة.
- لا يقيس الطاقة الإجمالية بشكل مباشر: يعتمد على قياس سعة موجة واحدة فقط، ولا يعكس بشكل كامل إجمالي الطاقة المنبعثة من الزلزال، خاصة في الزلازل الكبرى التي تحدث على صدوع طويلة جدًا.
البديل الحديث: مقياس العزم الزلزالي (Mw)
بسبب هذه القيود، وخاصة مشكلة التشبع، طور علماء الزلازل في سبعينيات القرن الماضي مقياسًا جديدًا وأكثر دقة لقياس قوة الزلزال، وهو مقياس العزم الزلزالي (Moment Magnitude Scale)، ويرمز له بـ Mw.
لماذا نحتاج إلى مقياس جديد؟
الحاجة كانت ماسة لمقياس يمكنه قياس حجم الزلازل الكبرى بدقة (مثل زلزال تشيلي 1960 بقوة 9.5)، وأن يكون له أساس فيزيائي واضح يعكس الطاقة الحقيقية المنبعثة من الزلزال.
كيف يعمل مقياس العزم الزلزالي؟
يعتمد مقياس Mw على مفهوم “العزم الزلزالي” (Seismic Moment)، وهو قياس فيزيائي لإجمالي الشغل المبذول بواسطة الزلزال. يتم حسابه بناءً على ثلاثة عوامل رئيسية يتم تقديرها من تحليل السيزموغرامات ومن الدراسات الميدانية للصدع:
- مساحة الصدع الذي انزلق (Area): كلما زادت مساحة التمزق على طول الصدع، زادت قوة الزلزال.
- متوسط مقدار الانزلاق على الصدع (Displacement): المسافة التي تحركتها كتلتا الصخور بالنسبة لبعضهما البعض.
- صلابة الصخور في منطقة الصدع (Rigidity): مقاومة الصخور للتشوه.
ببساطة، يقيس مقياس Mw الطاقة الإجمالية المنبعثة من الزلزال عند مصدره، وهو مقياس أكثر شمولاً ودقة من الاعتماد على سعة موجة واحدة فقط.
العلاقة بين ريختر ومقياس العزم
من المهم ملاحظة أن مقياس Mw تم تصميمه ليكون متوافقًا تقريبًا مع مقياس ريختر للزلازل الصغيرة والمتوسطة (حتى حوالي 6-7 درجات). هذا يعني أن زلزال بقوة 5.5 على مقياس ريختر سيكون أيضًا حوالي 5.5 على مقياس Mw. هذا التوافق هو أحد أسباب استمرار استخدام اسم “ريختر” بشكل شائع في الإعلام، حتى عندما تكون القوة المبلغ عنها هي في الواقع Mw.
اليوم، يعتبر مقياس العزم الزلزالي (Mw) هو المقياس الرسمي والمعتمد من قبل علماء الزلازل في جميع أنحاء العالم لوصف قوة الزلازل، خاصة الكبيرة منها. ومع ذلك، لا يزال مقياس ريختر الأصلي (أو مقاييس مشابهة تعتمد على السعة مثل ML أو Mb) يُستخدم أحيانًا للقياسات الأولية السريعة للزلازل الصغيرة أو المحلية.
الخلاصة: ريختر اسم خالد.. والعلم يتطور
إذًا، ما هو مقياس ريختر؟ إنه مقياس تاريخي وثوري لقياس قوة الزلازل بناءً على سعة الموجات المسجلة، وضعه العالم تشارلز ريختر وبينو غوتنبرغ. لقد خدم العلم جيدًا لعقود، لكن حدوده، خاصة عند قياس الزلازل الكبرى، أدت إلى تطوير مقاييس أكثر دقة.
اليوم، المقياس المعتمد عالميًا هو مقياس العزم الزلزالي (Mw)، الذي يقيس إجمالي الطاقة المنبعثة من الزلزال. فلماذا لا نزال نسمع اسم “ريختر” طوال الوقت؟ ببساطة، بسبب الألفة التاريخية وسهولة اللفظ، ولأن مقياس Mw يتوافق معه في نطاق الزلازل المتوسطة. غالبًا ما تستخدم وسائل الإعلام “ريختر” كاسم عام لوصف قوة الزلزال، حتى لو كانت القيمة المبلغ عنها هي Mw.
من المهم أيضًا التمييز بين “القوة” (Magnitude) التي يقيسها ريختر وMw (وهي كمية ثابتة للزلزال نفسه)، و”الشدة” (Intensity) التي يقيسها مقياس ميركالي المعدل (MMI)، والتي تصف تأثير الزلزال على منطقة معينة (تختلف من مكان لآخر حسب البعد عن المركز ونوعية التربة والمباني). قد يكون لزلزال بقوة 6 درجات تأثير مدمر (شدة عالية) إذا كان قريبًا من منطقة مأهولة، بينما قد لا يشعر أحد بزلزال بقوة 8 درجات يحدث في قاع المحيط البعيد (شدة منخفضة).
في النهاية، يظل مقياس ريختر علامة فارقة في تاريخ علم الزلازل، واسمًا سيظل مرتبطًا إلى الأبد بهذه القوة الطبيعية الهائلة. لكن العلم يستمر في التطور، سعيًا لفهم أعمق وأدق لهذه الظواهر التي تشكل كوكبنا.
جدول ملخص: مقارنة بين مقياس ريختر ومقياس العزم الزلزالي
| الميزة | مقياس ريختر (ML وما شابه) | مقياس العزم الزلزالي (Mw) |
|---|---|---|
| ماذا يقيس؟ | سعة أكبر موجة زلزالية مسجلة. | إجمالي الطاقة المنبعثة من الزلزال (العزم الزلزالي). |
| نوع المقياس | لوغاريتمي (الأساس 10 للسعة). | لوغاريتمي (مرتبط بالعزم الزلزالي). |
| الدقة للزلازل الكبرى | غير دقيق (يحدث له “تشبع” فوق 7 درجات تقريبًا). | دقيق لجميع أحجام الزلازل، لا يتشبع. |
| الأساس الفيزيائي | يعتمد على قياس السعة فقط. | يعتمد على خصائص الصدع (المساحة، الانزلاق، الصلابة). |
| الاستخدام الحالي | للتقارير الأولية السريعة للزلازل الصغيرة/المحلية؛ شائع في الإعلام. | المقياس الرسمي المعتمد عالميًا، خاصة للزلازل الكبيرة. |
الأسئلة الشائعة (FAQ)
بناءً على عمليات البحث، إليك إجابات لبعض الأسئلة المتداولة.
ماذا تعني الأرقام على مقياس ريختر؟
كل زيادة بمقدار درجة واحدة تعني أن سعة الموجة الزلزالية أكبر بـ 10 مرات، وأن الطاقة المنبعثة أكبر بحوالي 32 مرة. زلزال بقوة 5 يمكن الشعور به وقد يسبب أضرارًا طفيفة. زلزال بقوة 6 أقوى بكثير ويمكن أن يسبب أضرارًا معتدلة. زلزال بقوة 7 يعتبر كبيرًا ويمكن أن يسبب أضرارًا جسيمة. زلازل بقوة 8 وما فوق تعتبر عظيمة ومدمرة للغاية.
ما هو الفرق بين مقياس ريختر ومقياس ميركالي؟
مقياس ريختر (والعزم الزلزالي) يقيس “قوة” الزلزال عند مصدره (Magnitude). أما مقياس ميركالي المعدل (MMI) فيقيس “شدة” تأثير الزلزال في مكان معين بناءً على ما يشعر به الناس وما يحدث للمباني (Intensity). قوة الزلزال ثابتة، أما شدته فتختلف من مكان لآخر.
هل ما زال مقياس ريختر يستخدم اليوم؟
نعم، ولكن ليس كمقياس أساسي لوصف قوة الزلازل الكبرى. يستخدم العلماء مقياس العزم الزلزالي (Mw) بشكل أساسي. ومع ذلك، لا يزال اسم “ريختر” يستخدم على نطاق واسع في وسائل الإعلام كمرادف لـ “قوة الزلزال”، وغالبًا ما تكون الأرقام المذكورة هي في الواقع قيم Mw.
هل يمكن لمقياس ريختر التنبؤ بالزلازل؟
لا، مقياس ريختر (وأي مقياس لقوة الزلزال) هو أداة لقياس حجم الزلزال “بعد” وقوعه، وليس للتنبؤ به “قبل” وقوعه. التنبؤ الدقيق بالزلازل لا يزال تحديًا علميًا كبيرًا.
اقرأ في مقالنا عن:
- انفجار بركاني يُرى من الفضاء: طاقة تفوق آلاف القنابل النووية وتأثيرات تمتد إلى المناخ
- الصفائح التكتونية: كيف تشكلت القارات وما سبب الزلازل والبراكين
- هل تتنبأ الحيوانات بالزلازل قبل وقوعها؟ بين الأسطورة والحقائق العلمية
- أضواء الزلازل : بين التفسير العلمي ونظريات الأسلحة السرية
- الزلازل: دليل شامل لفهم أسبابها وأنواعها وكيفية قياس قوتها
- البركان المخروطي: أسرار التكوين وأخطر الثورات البركانية في العالم
- قياس قوة الزلزال؟ فهم مقاييس الزلازل وتأثيرها على العالم
- الهزات الأرضية في الخليج العربي: الأسباب، التأثيرات، وكيفية التنبؤ بها
- براكين سيبيريا والانقراض العظيم: كيف تسببت الكارثة في “الموت العظيم”؟





