في قلب صحراء شبه الجزيرة العربية الشاسعة، تتجلى قصة نجاح بيئية فريدة. بطل هذه القصة هو كائن أبيض اللون رشيق القوام. يمتلك هذا الكائن قرونًا طويلة ومستقيمة تشبه الرماح. بالطبع، نحن نتحدث عن المها العربي (Oryx leucoryx). يعرفه الناس في الموروث الشعبي باسم “الوضيحي” بسبب بياضه الناصع. في الواقع، يُعد هذا الحيوان أيقونة للجمال الصحراوي وقدرة الكائنات على التكيف. لم يكن مجرد ساكن عابر. بل على العكس، هو جزء لا يتجزأ من تاريخ المنطقة وثقافتها.
المها العربي: أيقونة ثقافية وتاريخية
في الماضي، كانت قطعانه تجوب صحاري شبه الجزيرة العربية. امتد نطاقها من بلاد ما بين النهرين شمالاً حتى جنوب الجزيرة العربية. نتيجة لذلك، ارتبط اسمه بالشعر العربي بشكل وثيق. تغنى الشعراء بجمال “عيون المها” وضربوا به المثل في الرشاقة. لهذا السبب، لم يكن مجرد حيوان، بل كان رمزاً حياً للجمال والصمود.
على حافة الهاوية: قصة الانقراض في البرية
لكن مع الأسف، كاد هذا الجمال الأخاذ أن يختفي. فمع بزوغ القرن العشرين، واجه الوضيحي خطر الصيد الجائر وغير المنظم. تفاقم هذا الخطر مع استخدام الأسلحة النارية الحديثة والمركبات السريعة. وبالتالي، بدأت أعداده تتناقص بشكل مأساوي. لقد أصبح هذا الكائن الأسطوري، الذي تحدى قسوة الصحراء لآلاف السنين، على شفا الانقراض.
نهاية حقبة وبداية أمل
في مطلع السبعينيات، دقت أجراس الخطر بقوة. في ذلك الوقت، أعلن الخبراء أن المها العربي انقرض تمامًا في البرية عام 1972. كانت آخر المشاهدات المؤكدة له في صحراء الربع الخالي. بدا وكأن الصحراء قد فقدت أحد كنوزها إلى الأبد. مع ذلك، فإن ما حدث بعد ذلك يمثل واحدة من أروع قصص الحفاظ على الحياة البرية.
عملية “المها العربي”: سفينة نوح الحديثة
بفضل رؤية ثاقبة وجهود دولية منسقة، أطلق الخبراء عملية “المها العربي”. شكلت هذه العملية مبادرة عالمية لإنقاذ هذا النوع. حيث قاموا بجمع الأعداد القليلة المتبقية من مجموعات خاصة وحدائق حيوان حول العالم. بعد ذلك، بدأ برنامج إكثار طموح في الأسر.
جهود دولية منسقة
بعد سنوات من العمل الدؤوب، بدأت طلائع هذا الكائن النبيل تعود إلى صحاريها. على سبيل المثال، كانت سلطنة عُمان أول دولة تطلق برامج إعادة التوطين في عام 1982. ثم تلتها جهود رائدة في المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات والأردن. في المحصلة، تحولت قصته من مأساة إلى ملحمة نجاح باهر.
الجسم: جوهرة الصحراء وقدرة التكيف المذهلة
لا يقتصر تميز المها العربي على مظهره الجميل. بل إنه تحفة من روائع التطور البيولوجي. تكشف دراسة خصائصه عن آليات مذهلة. هذه الآليات مكنته من البقاء في قلب الصحراء القاسية.
الخصائص الجسدية للمها العربي: تصميم فريد للبقاء
يتميز بلونه الأبيض اللامع. يساعده هذا اللون على عكس أشعة الشمس الحارقة. بالإضافة إلى ذلك، كان هذا البياض سببًا في تسميته بـ “الوضيحي”. تتباين درجة البياض هذه مع علامات داكنة على الوجه والساقين، مما يمنحه هوية بصرية فريدة.
المها العربي قرون أيقونية وحوافر متكيفة
يمتلك المها قرونًا طويلة ومستقيمة قد يصل طولها إلى 75 سنتيمترًا. يستخدم المها هذه القرون كأداة دفاع فعالة ضد المفترسات. علاوة على ذلك، يستخدمها في النزاعات الاجتماعية. ومن الطريف أن هذه القرون قد تبدو كقرن واحد عند النظر إليها من الجانب. لهذا السبب، يعتقد بعض المؤرخين أن أسطورة “أحادي القرن” نشأت من مشاهداته. أيضًا، يمتلك حوافر عريضة ومسطحة تساعده على الحركة بسهولة فوق الرمال.
عبقرية التعامل مع البيئة الصحراوية
تتجلى عبقرية تكيف المها العربي في قدرته الفائقة على التعامل مع ندرة المياه. فهو يستطيع البقاء لأسابيع طويلة دون شرب الماء مباشرة. بدلاً من ذلك، يحصل على معظم احتياجاته من الرطوبة من النباتات التي يتغذى عليها.
آليات فسيولوجية مذهلة
يمتلك هذا الكائن قدرة فسيولوجية فريدة لتقليل فقدان الماء. حيث ينتج بولًا عالي التركيز وبرازًا جافًا جدًا. والأكثر إثارة للإعجاب، هو قدرته على تنظيم درجة حرارة جسمه. فهو يرفع درجة حرارة جسمه نهارًا لتقليل التعرق. وفي المقابل، تنخفض درجة حرارة جسمه ليلاً للحفاظ على الطاقة.
السلوك الاجتماعي والأثر البيئي
يعيش المها العربي في قطعان اجتماعية منظمة. تتكون هذه القطعان عادة من 10 إلى 15 فردًا. مع ذلك، قد يصل العدد إلى 100 أحيانًا. يقود القطيع عادة ذكر مهيمن، وتظهر المجموعة سلوكًا اجتماعيًا معقدًا. هذه القطعان دائمة الحركة بحثًا عن المراعي.
في النهاية، لم تكن عودته للبرية مجرد إضافة جمالية. بل كان لها أثر بيئي إيجابي كبير. فهو يلعب دورًا مهمًا في الحفاظ على صحة المراعي وتخصيب التربة الصحراوية.
إرث يتجدد ومسؤولية مستمرة
تُعد قصة المها العربي أكثر من مجرد سرد لعودة حيوان إلى موطنه. في الواقع، إنها تجسيد حي للإرادة السياسية والتعاون الدولي. لقد أصبحت جهود إعادة توطينه نموذجًا عالميًا يُحتذى به. ونتيجة لذلك، تحول وضعه في القائمة الحمراء للاتحاد الدولي لحماية الطبيعة (IUCN) من “منقرض في البرية” إلى “معرض للخطر”.
جهود إقليمية رائدة قادت العودة المظفرة
لم يكن هذا النجاح ليتحقق لولا الرؤية المستقبلية لقادة دول المنطقة. على سبيل المثال، كان للمغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان في دولة الإمارات دور محوري. وبالمثل، بذلت المملكة العربية السعودية وسلطنة عُمان والأردن جهودًا حثيثة.
المها العربي في الإمارات والسعودية: نماذج رائدة في الحفاظ
في دولة الإمارات، أصبحت محمية المها العربي في أبوظبي موطنًا لأكبر قطيع في العالم. ويرجع الفضل في ذلك إلى برنامج الشيخ محمد بن زايد لإعادة توطين المها العربي. وفي سياق متصل، تتناغم برامج إعادة توطينه في السعودية مع أهداف رؤية السعودية 2030 ومبادرة “السعودية الخضراء”.
المها العربي في عُمان والأردن: حراس التراث الطبيعي
في سلطنة عُمان، كانت “محمية الكائنات الحية والفطرية” من أوائل المواقع التي شهدت عودة “الوضيحي”. من ناحية أخرى، تقدم “محمية الشومري للأحياء البرية” في الأردن قصة نجاح ملهمة. حيث توفر للزوار فرصة فريدة لرؤيته في بيئته الطبيعية.
التحديات المستقبلية والمسؤولية المشتركة عن المها العربي
ولكن، مع هذا النجاح الكبير، تأتي مسؤولية أكبر. فالتحديات لم تنتهِ بعد. لا يزال المها العربي يواجه مخاطر مثل تغير المناخ والتوسع العمراني. لذلك، تتطلب استدامة هذا النجاح التزامًا مستمرًا.
يجب علينا مواصلة دعم برامج الحماية ونشر الوعي البيئي. إن قصة هذا الحيوان هي رسالة قوية إلى العالم. مفادها أن التعافي البيئي ممكن عندما تتضافر الجهود. إنها دعوة مفتوحة لنا جميعًا لنكون حراسًا على هذا الكنز الصحراوي الثمين.
اقرأ مقال: كيف تبدأ رحلتك في السياحة البيئية في العالم العربي؟
اضغط هنااقرأ المقال: النعام أحمر الرقبة: قصة صمود عملاق الساحل من حافة الانقراض
اضغط هنا